سوريا- ثورة نحو الحرية والإستقرار، مستقبل جديد للمنطقة

إن الانتصار الذي حققته الثورة السورية بإسقاط نظام حكم استبدادي دام قرابة الخمسة وخمسين عامًا، يمثل منعطفًا تاريخيًا بالغ الأهمية في تاريخ سوريا والمنطقة بأسرها. هذا الحدث الجلل يحمل في طياته تحولات استراتيجية عميقة الأثر، ستعيد رسم خارطة الإقليم نظرًا للموقع الجيوسياسي المحوري الذي تتمتع به سوريا.
إن نجاح الثورة سيؤدي حتمًا إلى تقويض التوازنات القائمة التي هيمنت على سوريا والمنطقة لعقود طويلة، مما يتسبب في خسائر استراتيجية فادحة لقوى إقليمية مؤثرة. ومع هذا التغيير، ستظهر توازنات جديدة، قد لا تتضح معالمها في الوقت الحالي، لكن استكمال مسيرة الانتقال السياسي سيضعنا أمام واقع جديد ومختلف في المستقبل القريب.
الخسارة الاستراتيجية لإيران
في السنوات الأخيرة، تحولت سوريا إلى ساحة لتنازع النفوذ والصراع بين القوى الدولية والإقليمية المتنافسة. لقد أصبح النظام الحاكم مجرد واجهة سياسية هشة، وغطاء لأدوات الهيمنة التي استخدمتها إيران عبر ميليشيات عابرة للحدود في مشروعها الإقليمي، وروسيا كقاعدة متقدمة لها على البحر الأبيض المتوسط، والولايات المتحدة الأمريكية لدعم قوات سوريا الديمقراطية وتأجيج النزعات الانفصالية في المناطق الكردية.
في هذا السياق المعقد من التجاذبات الإقليمية والدولية، تمثل خسارة إيران لسوريا ضربة استراتيجية قاصمة لم تتعرض لها طهران في تاريخها السياسي الحديث منذ حرب الخليج الأولى. من المؤكد أن هذه الخسارة ستؤدي إلى تقلص نفوذ إيران وتراجع مشروعها التوسعي في العديد من دول المنطقة التي بسطت سيطرتها عليها من خلال أذرع عابرة للحدود.
يكمن عمق الخسارة الاستراتيجية لإيران في الأهمية البالغة التي توليها سوريا في مشروعها الإقليمي، وفي التكاليف الباهظة التي أنفقتها لبناء خط اتصال بري حيوي يربط طهران بما تسميه "دول المحور". هذا الخط يتيح لإيران ووكلائها حرية الحركة والتنقل والسيطرة، مما أدى إلى فرض واقع جيوسياسي يخدم المصالح الاستراتيجية الإيرانية، ويجعلها اللاعب الرئيسي والمستفيد الأكبر في صراعها مع خصومها.
لقد اتسم التدخل الإيراني في العديد من الدول بنزعة للهيمنة والتوسع، على حساب دول عربية عريقة كانت مدنها مهادًا للحضارة العربية والإسلامية. وبغض النظر عن الشعارات والخطابات السياسية التي ترفعها إيران في مواجهة النزعة الاستعمارية الغربية، فإنها قد أعادت إنتاج نفس السلوك الاستعماري في العراق وسوريا وغيرهما، وعملت على تأجيج النعرات الطائفية في المجتمع، وتقويض أركان الدول وجعلها تحت رحمة الميليشيات والأذرع التي تدين لها بالولاء المذهبي والسياسي.
بعبارة أخرى، لقد كان الوضع الجيوسياسي الذي أوجدته الأذرع العابرة للدول يحمي إيران، ويجعل الصراع يتركز في مناطق استراتيجية تقع في دول الجوار، مما يحول حدود هذه الدول إلى حواجز حماية أو ساحات اشتباك مفتوحة وبعيدة عن المركز. وقد أدى ذلك إلى صناعة دول فاشلة ومتصدعة في نسيجها الاجتماعي، مما يسهل الهيمنة عليها، وإخضاعها لحكم استبدادي شمولي النزعة، أو لحكم ذي صبغة طائفية يتوسل بأدوات الاستبداد لقمع المكونات الأخرى في المجتمع، وتحويل الدولة والمجتمع إلى هامش يخدم مشروع إيران.
يمكن القول بثقة إن إسقاط نظام الأسد وتحرير دمشق أدى إلى انهيار كبير في المشروع الذي بنته إيران في المنطقة العربية على مدى عقود من الزمن. وقد يؤدي ذلك مستقبلًا إلى انحسار نفوذها في بقية الدول، خاصة إذا انتشرت الروح التي عبر عنها ثوار سوريا والرؤية السياسية الجامعة التي ينشدونها في خطابهم ومواقفهم، أي بناء دولة تحتضن التعددية وتنبذ المحاصصة، وتمنع انتشار السلاح خارج سلطة الدولة والقانون، وعلى رأس كل ذلك، تنعم بالحرية.
لا شك أن ذلك سيكون حافزًا قويًا للشعوب الأخرى ودافعًا لها، وهو دافع للدول التي ترزح تحت سيطرة الميليشيات للتخلص من نظام المحاصصة المقيت الذي يضعف الوحدة السياسية، ويجعل مصائر الدول وإراداتها أسيرة لقوى خارجية إقليمية أو دولية. كما أنه سيكون دافعًا لبقية شعوب المنطقة التي أجهضت ثوراتها للتعبير عن تطلعاتها المشروعة في مستقبل مشرق.
المنطقة العربية بين مخاوف الأنظمة من العدوى وتطلعات الشعوب إلى الحرية
لا شك أن سقوط نظام الأسد كان مفاجئًا للعديد من الأطراف العربية، حيث كانت هناك محاولات لإعادة تأهيله من قبل بعض الدول العربية ومن خلال الجامعة العربية نفسها. وقد انعكس ذلك في الموقف الحاد من الثوار في الإعلام ومواقف بعض الدول، التي اكتشفت متأخرة أن النظام الذي كانت تسعى لدعمه قد انتهى بالفعل، وأن الثورة السورية قد حققت انتصارًا حقيقيًا بإسقاط نظام سياسي جاثم على صدور السوريين لعقود طويلة.
ولا تخفي العديد من الدول المعادية للحرية والديمقراطية والتي دعمت الثورات المضادة طيلة السنوات الماضية، أن ما جرى في سوريا يمثل تهديدًا ضمنيًا لها، لما قد يحمله التغيير الحالي من إمكانية لإنعاش روح الثورات لدى شعوب المنطقة.
لقد استقبل النظام الرسمي العربي نجاح الثورة السورية بالكثير من التردد والخوف، وهو في واقع الأمر ليس خوفًا وقلقًا على سوريا، وإنما خشية من أن تمتد آثار التغيير إلى كامل المنطقة العربية. ولذلك، نجد أن بيان اجتماع وزراء الاتصال العرب في العقبة لم يعكس الديناميات السياسية المتسارعة التي شهدتها سوريا.
وعلى الرغم من أهميته في فك بعض العزلة الدولية عن سوريا الجديدة واتخاذه موقفًا واضحًا من الاعتداءات الإسرائيلية على الأراضي السورية وتوغلها في الجولان، فإنه من جانب آخر لا يتماشى مع الواقع السياسي الراهن والمتغيرات المستجدة على الأرض السورية. فمع إسقاط نظام الأسد، أصبح القرار الدولي 2254 جزءًا من الماضي.
بالنظر إلى الحركة الدبلوماسية الإقليمية والدولية المكثفة التي أعقبت تحرير دمشق، بين عمّان وبغداد وأنقرة وغيرها، والتي انتهت إلى بيان باهت لا يعكس روح المرحلة الجديدة، فإن الامتثال التام لهذا التوجه دون مناورة أو خلق بدائل أخرى، سيؤدي إلى إفراغ العمل الذي أنجزه الثوار السوريون من مضمونه ورؤيته السياسية، وإدخال سوريا في متاهة وصاية دولية قد لا تنتهي، بل قد تكون مدخلًا لإحداث انقسام سياسي في لحظة حرجة، ستكون تبعاته شبيهة بما حدث في ليبيا، التي بقيت في وضع معلق بين الاستقرار والفوضى.
يمكن القول في هذا السياق إن الدور التركي والقطري، بالإضافة إلى السعودية التي تتباين مواقفها عن مواقف دول أخرى، سيشكل دعامة أساسية للسلطة الجديدة في سوريا، سواء في فك العزلة الدولية والإقليمية أو في كبح التدخلات التي تسعى لإفشال المسار الانتقالي في سوريا وإدخاله في دائرة العنف أو الانقسام السياسي والاجتماعي الحاد.
لقد أحدثت الثورة السورية في حلتها الحالية وفيما أسفرت عنه، تغييرات جيوسياسية كبرى في الإقليم والمنطقة العربية:
أولًا: على مستوى الإقليم
لقد منحت الثورة السورية تركيا دورًا رياديًا، وستجعلها فاعلًا مركزيًا في مستقبل المنطقة. وبصيغة أخرى، فإن ما حدث كان من ثمار التنسيق الوثيق بين تركيا ومكونات الثورة السورية في الشمال السوري، انطلاقًا من حتمية الجغرافيا وحرص تركيا على احتواء تداعيات الثورة السورية. هذا التنسيق سيؤدي بالضرورة إلى شراكة استراتيجية متينة بين تركيا وسوريا ذات الموقع الاستراتيجي في المنطقة العربية.
يجب أن نؤكد هنا أن علاقة تركيا بالمنطقة العربية تختلف جوهريًا عن الدور الإيراني، إذ يمكن للعلاقات التركية العربية أن تثمر بناءً يحقق مكاسب للطرفين، وتبادل خبرات، وتعاونًا مشتركًا يخدم الاستقرار السياسي والمجتمعي دون المساس بالسيادة الوطنية. على عكس الدور الإيراني الذي يسعى لتقويض الدول لصالح المكونات التابعة لها، بل إن استراتيجيتها تقوم على زرع الانقسام الحاد بين مكونات المجتمع الواحد.
إن التحديات التي تواجه الإقليم في اللحظة الراهنة تفرض تعاونًا أوثق بين تركيا وقطر والسعودية في سوريا. وقد يبدو للبعض مستغربًا الحديث عن دور إيجابي للسعودية في سوريا على الرغم من مخاوفها السابقة من الربيع العربي، ولكن تحرير دمشق قد حرر الرياض كذلك من الضغط الذي كانت تمثله إيران عليها. ولذلك، فإن استكمال مسار الانتقال وبناء سوريا الجديدة يحتاج إلى ثقل المملكة العربية السعودية للحيلولة دون التدخل السلبي لأطراف أخرى في المنطقة تتوهم القوة، وتحمل روحًا معادية للحرية والاستقلال الذاتي وتسعى لتقويض مسار التحول الديمقراطي. كما أن هذا التعاون سيمنح السعودية استعادة دورها الإقليمي المؤثر إيجابًا.
ثانيًا: المنطقة العربية
لقد أشرنا سابقًا إلى جملة من المخاوف والهواجس التي تنتاب الساسة العرب من سقوط نظام الأسد، ذلك أن هذا الحدث سيخلق حتمًا ارتدادات قوية في وعي الشعوب، ويولد طاقة جديدة لإرادة التغيير وتجديد الإيمان بأفق الحرية والديمقراطية والكرامة الذي تم وأده بالقوة والنار، أو بالالتفاف الناعم كما جرى في عدد من الدول العربية.
إن تحقيق الحرية على أرض الواقع وزوال الأنظمة المستبدة هو مسألة حتمية في المنطقة العربية، وكل المؤشرات الاجتماعية والاقتصادية والسياسية تشير إلى هذا الاتجاه. لذلك، فإن المطلوب عربيًا بالإضافة إلى دعم سوريا من الجامعة العربية والحراك الدبلوماسي الإيجابي للدول في المنتظم الدولي، هو الحاجة الماسة إلى مصالحة الأنظمة مع شعوبها لتجاوز الاحتقان السياسي والاجتماعي.
ينبغي إجراء مصالحة داخلية شاملة في معظم الدول العربية بين الأنظمة والفاعلين والنخب السياسية، تفضي بالضرورة إلى إطلاق عملية سياسية تزرع الروح في الأنساق السياسية المتهالكة، وتوفر مناخًا من الحرية واحترام حق الممارسة والنقد السياسي، أي إنهاء حالة العسكرة في الحياة السياسية العربية والتسلط الذي يخضع له الفضاءين الخاص والعام. وبموجب ذلك، تنتهي معاناة عشرات الآلاف من السجناء والمنفيين عن أوطانهم.
إن الانخراط الجاد في المصالحة والحوار السياسي والمجتمعي في العديد من الدول وإطلاق سراح المعتقلين السياسيين هو فضيلة وحكمة يجب أن تكون أهم الدروس المستفادة من تجربة سوريا. وخلافًا لذلك، فإن ما تزرعه السلطويات سيكون حصادًا مريرًا وموجعًا في المستقبل.
دمشق وممكنات الاستئناف العربي للنهوض
إن البعد الحضاري والتاريخي يقدم لنا مدخلًا مهمًا لفهم دور دمشق في مجرى التغييرات الكبرى في الحضارة الإسلامية. فتحرير دمشق بالإضافة إلى أهمية موقعها الجيوسياسي في المنطقة هو مسألة رمزية عميقة المعنى في الوجدان والوعي العربي والإسلامي. ومن ثم، فإن استكمال مسار الانتقال السياسي من الثورة إلى الدولة في سوريا سيسفر حتمًا عن تغييرات جوهرية في الإقليم برمته، بدءًا من التقدم والحرية والاستقلال، وانتهاء باسترداد الحق الفلسطيني.
إن في ذلك استيعابًا عميقًا للدروس التي يحملها التاريخ، فجغرافيا المكان وباعتبار سوريا نقطة التقاء وتقاطع ديني وثقافي واجتماعي مع كل دول ومكونات الإقليم، يمنحها زخمًا خاصًا في الأدوار التاريخية الكبرى. وهذا ليس ضربًا من التنجيم، ولكنها وقائع التاريخ ودينامياته الفاعلة منذ فجر الحضارة العربية والإسلامية، مرورًا بكل الهجمات التي تعرض لها كيان الشرق الحضاري، ومسار الربيع العربي الذي انتهى في سوريا برحيل نظام قمعي لا مثيل له، ما يعد في جوهره معركة تحرير ومحاولة نهوض حقيقية تخوضها شعوب المنطقة منذ قرنين تقريبًا بأشكال وأساليب متنوعة من المقاومة، تجسدت في البداية في مواجهة الاستعمار، ثم لاحقًا في مواجهة الاستبداد.
إن هذه الرمزية والموقع الجيوسياسي الذي تحتله سوريا في قلب المنطقة العربية يجعلانها في صلب تحديات جمة قد تعيق الانتقال السياسي وتغرق القوى الفاعلة الآن في تناقضات ثانوية. لذلك، فإن الفاعلين الجدد بحاجة إلى ذكاء سياسي واستراتيجي فائق في مرحلة بناء دولة المواطنة التي تستوعب الجميع، ويختلف في طبيعته عن طبيعة التخطيط والقدرة على إنجاز تطلعات الشعب السوري في مرحلة التحرير المجيدة.
ختامًا: لقد كان مسار الثورة السورية مضنيًا ومكلفًا، وقد تحمل السوريون آلامًا لا حصر لها في السجن الكبير الذي شيده نظام سياسي حاقد حمل كل صفات الشر. ولكن بقدر المعاناة التي قدمها السوريون، قد يكون المكسب في معركة الحرية والتقدم عظيمًا، وقد يمتد أثر ذلك إلى كل المنطقة التي تتطلع إلى الثورة السورية باعتبارها بصيص أمل للشعوب العربية في خضم الظلم، تستخلص منها العبر وتأخذ الدروس من أجل نهضتها المنشودة التي تستلزم بناء مجتمع المواطنة الكاملة القائمة على الحرية والعدالة.
ولا يسعنا هنا إلا أن نستذكر أحد أبرز أعلام حلب الشهباء، الذي ربط التقدم وتحقيق النهضة بالخلاص من الاستبداد، ونقصد بذلك عبدالرحمن الكواكبي الذي يعد كتابه "طبائع الاستبداد ومصارع الاستعباد" صرخة مدوية أطلقها في مطلع القرن العشرين وما تزال تحمل قدرتها التفسيرية إلى يومنا هذا، وبذلك يتحقق الاستئناف العربي الإسلامي للنهوض والازدهار.